فن

بركة ساكن: أديب حرب السودان

بركة ساكن، صوت السودان الأدبي، يكتب عن الحرب، الإنسان، والهوية، في سرد واقعي يعري المآسي ويطرح أسئلة وجودية عن الحرية والعدالة.

future الأديب والروائي السوداني، عبدالعزيز بركة ساكن، الحائز على جائزة الطيب صالح للرواية، وأغلفة أعماله مع دار فاصلة للنشر والتوزيع

يَزْخر أدبُ القضية بأقلامٍ خلدت أسماءها لصدق ما عبّرت به عن واقعٍ مأساويٍّ معاش، سواء كان مقاومة ضد احتلالٍ في فلسطين أو نضالًا ضد استبدادٍ في سوريا. ومع ذلك، تظل بعض القضايا العربية المهمة والمتناولة في أعمال أدبية عديدة، كالحرب الأهلية، أقل حظًا في المقروئية الجماهيرية خارج نطاق حدودها الإقليمية، وإن نذر كُتّابُها حياتهم ومشروعهم الأدبي من أجلها، ودفعوا الأثمان راضين دون تراجع.

ربما السودان هو أوضح مثال. واحدٌ من أبرز الأصوات الأدبية في السودان والعالم العربي ممن يكتبون عن الهم السوداني والحرب الأهلية لأكثر من عقدين من الزمان هو عبد العزيز بركة ساكن. ثلاثة عشر عامًا قضاها لاجئًا خارج السودان متنقلًا بين البلدان، وليس عنده وطن بديل. يعيش في المنفى ويؤمن أن «قلبك منفاك الأعظم». يكتب بالعربية الفصحى ومفردات التراث الشعبي السوداني التي ربما يستثقلها من لا يتكلم بها. كما أن استغراقه في الشأن السوداني وتركز مشروعه الأدبي في همه الوطني وعلى أدب الحرب ربما جعلا شعبيته قاصرة على شعبه بالأساس، ليس لأن ما يحدث في السودان غير كثير، وإنما لأن السودان عربيًا، ولسبب ما، لا بواكي لها، كما يشكو السودانيون.

في الصيف الماضي، حلّ بركة ساكن ضيفًا على القاهرة في ثلاث لقاءات تجاوز فيها عدد الحضور العدد الذي يستوعبه مكان اللقاء، حتى إن ناشره دار فاصلة للنشر لجأ إلى حجز قاعة فندقية لاستيعاب الأعداد في لقائه الأخير. غالبية الحضور كانوا من السودانيين المقيمين في مصر ومعهم القليل من المصريين.

يكتب ساكن الرواية فقط. يعتبرها فن كتابة الحكاية وليست الحكاية نفسها. يقول إن الخوف هو شرارة الكتابة بالنسبة له، وإنه يكتب عندما يكون خائفًا، وإن الحكومات العسكرية لا تهتم بالأدب بل تضع قوانين تحطمه.

ينحدر ساكن من أسرة معظمها في الجندية؛ فوالده كان عسكريًا، وكذلك إخوته وجيرانه. لا يجد حرجًا في أن يُصرّح أن عائلته من مجموعة فقيرة جدًا تنتمي إلى الحي الأفقر، خشم الجربة، وأن المعتاد بالنسبة للفقراء أن ينخرطوا في الجيش.

مشروع ساكن محوره الحرب، وهو حين يكتب عن الحرب لا يكتب فقط عن ضحاياها، بل أيضًا يضع الجنود في قلب الحكي. بالنسبة لساكن، الجندي مواطن تم تسييسه، ولذا فهو يرفض قتل الجنود. في كتاباته، نجده يدافع عن الجندي لكي يخرج من القمقم الأيديولوجي الذي وضعه النظام فيه للدفاع عن الحاكم وخدمة أيديولوجيته. ساكن أيضًا ضد النظام الذي يحول المدنيين الرعاة إلى أدوات ومقاتلين.

فماذا كتب بركة ساكن في ثماني روايات من قلب الواقع الأليم في السودان؟

كتب في «الأشوس» عن المرتزقة المشاركين في الحروب بغية المال والمكانة الاجتماعية، ثم تأتي امرأة تطرح أحلام أحدهم أرضًا انتقامًا لزوجها الذي قتله بعد غزو قوات الأشاوس لموطئ السكان البسطاء. وعن المسكوت عنه في محنة الإنسان السوداني والحروب الضروس ذات الفظائع اليومية في «مسيح دارفور»، حتى أن صار «أهون للجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله». وعن العمال الموسميين الذين تتغير أعمالهم وأسماؤهم خلال شهور السنة دون أن يغيب عنهم الشقاء لحظة في «الجنقو مسامير الأرض»، التي فاز عنها بجائزة الطيب صالح في الرواية عام 2009.

أما في «زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة» ففضح الاضطهاد والعنصرية التي نهشت في البلاد وأدت إلى انفصال الشمال عن الجنوب. حكى عن أزمة الهوية والنظرة الدونية للون الأسود حالك السواد كما في الجنوبيين، ويتجنبونه عند الزواج. كتب معاناة إنسان جنوب السودان الذي لا يفهم إن كانت الحرب بين المسلمين ضد المسيحيين، أم إنها بين المسلمين وبعضهم، أو بين المسيحيين وبعضهم، أم بين المسلمين والمسيحيين ضد المسلمين والمسيحيين كذلك. يتساءل: لماذا يموت الناس؟ فداء الوطن، أم الإسلام، أم العدم؟

وفي «الطواحين» واصل تساؤلاته عبر حكاية نضالٍ بطلتها امرأة ضدَّ السلطة المستبدة التي تصر على أن تضعها في قالب أصغر من أحلامها؛ هل بإمكاننا أن نأمل في مُتنفَّسٍ للحرية في محيطٍ يملؤه الاستبداد والقهر؟ هل يُمكن التأسيس لجمالٍ خاصٍ وسط القبح؟ وهل يُمكن للعلاقات أن تحفظ نقاءها دون أن تُدنَّس بوقاحة الواقع؟ وفي «سماهاني» تساءل كذلك: من أين جاءت الحرية إلى إفريقيا؟ وهل وصلت فعلًا؟ هل كانت هدية على أطباق الاحتلال أم ثورة ونضال؟ ليجيب: «أخشى أن نكون أندلس إفريقيا الضائعة! تلك البلاد التي أضاعها حكامها بالمجون والكسل، وظنوا أن السيف والسوط قادران على حمايتهم والمحافظة على سلطانهم».

افتتح «العاشق البدوي» بعبارة: الإنسان هو مشروع فاشل لمخلوق أسمى، ليقدم مروية ضابط وسيم مدَّعِي الإيمان، سَامَ ورفاقه أجساد النساء الحزينة سوء العذاب. وحذر في «رماد الماء» من الانخداع بالسلام الذي كان ثمنه الموت البارد ويؤكد أن السلام تعريفه الوحيد هو جثة الحرب.

«أنا كاتب لا أعترف بالحياد. لا يوجد شخص محايد» هكذا يقول عن نفسه، موضحًا أنه كاتب منحاز لا لأحد بل للإنسان، للمواطن المتضرر من كل الصراعات السياسية التي تتحول لصراعات عسكرية. فمعظم الانقلابات السياسية التي تحصل في السودان وتأتي بالعسكر يأتي بها المدنيون أساسًا، كما ذكر في لقائه.

في ذلك اللقاء الذي حضرتُ قبل عدة أشهر، قال: لا تستعن بالعسكري، وإن البندقية ليست نوعًا من التفكير لتأتي بعسكري وتذهب بالمدني، وإن «حكم العسكر ما بيتشكّر» كما يقول السودانيون، وردد هو، وإن البارود لا يجب أن ينتصر على روح الإنسان.

# كتب # مراجعات أدبية # دار فاصلة للنشر والتوزيع

كتاب «الجغرافيا المقلوبة»: أماكن وآراء وأدب
ترشيحات معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025
ملفات سامح الصيرفي: متعة العودة لروايات الجيب

فن